أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة جامعات دين مغاربيات خليجيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة الأسرة طقس اليوم

البواريد يكتب: عندما تلتقي الرغبات بالوجود


منصور البواريد

البواريد يكتب: عندما تلتقي الرغبات بالوجود

مدار الساعة ـ

في زمن تتشظى فيه الهويات وتتشكل على هيئة مصالح مؤقتة، وحين تُستخدم الشعارات الوطنية كواجهة لخطابات تنزع إلى التفكيك أكثر مما تدعو إلى البناء، يصبح من السذاجة أن نقول إنَّ الأردن يواجه تحديات فحسب؛ نحن أمام مفترق وجودي نُعاد فيه التفاوض لا على السياسات أو التفاصيل، بل على معنى الدولة ومكانتها في الضمير الجمعي، وعلى الثقة التي تشكل عمودها الفقري.

من الداخل، تتكاثر أصوات تمتهن النقد لا لتصويب المسار، بل لإعادة تموضع سياسي يطفو فوق هيبة الدولة، بينما في الخارج تتنامى مشاريع إقليمية لا ترى في الأردن كيانًا ندِّيًّا أو حليفًا في صناعة التوازن، بل تحاول أن تُلبسه ثوب الحلقة الأضعف، متناسية أنَّ هذا البلد لم يكن يومًا سهل الانحناء، وأنَّ شعبه، حين تُستفز كرامته، يُعيد تعريف الصلابة من جديد.
المسألة لم تعد: من يُعارض؟ بل من يُعادي؟ وكيف نُفرِّق بين معارضة وطنية تستند إلى المحبة، وبين هدمٍ مُقنَّعٍ يتستر بعبارات منمقة ليدفع الدولة نحو التشظي. إنَّ بعض القوى التي ترفع راية الناس، لا تفعل ذلك حبًا بهم، بل لأنَّها تغتذي من فجوة الثقة وتعيش على الإخفاق، وترتعب من نجاح الدولة لأنَّه يسحب منها مبرر البقاء. ولسنا هنا بصدد جماعات سياسية مأزومة فحسب، بل أمام طيف واسع من الامتيازات القديمة التي لفظها الزمن، وخطابات شعبوية تسكن قلق الشباب وتُحوله إلى سخط.
الأشد خطرًا أنَّ بعض هذهِ الخطابات تُتقن ارتداء ثوب الوطنية، لكنها في جوهرها لا تصطدم مع قرار هنا أو سياسة هناك، بل تُخفي عداء عميقًا لفكرة الدولة نفسها. ولعل الرد لا يكون بالإقصاء وحده، بل بإعادة ترتيب المساحات المشتركة التي ننهض بها جميعًا، على أساس لا يسمح بابتزاز النسج الوطني الأردني ولا يقايض على الثوابت، وهذا ما بدأت به الدولة الأردنية الهاشمية فعليًّا في بلورته من خلال تحولات هادئة وعميقة تقودها القيادة الهاشمية بثقة متجددة.
الملك عبدالله الثاني -حفظه الله ورعاه-، الذي لطالما أثبت في المحطات الإقليمية والدولية أنَّه ليسَ مجرد زعيم سياسي بل بوصلة وطنية، يمسك بتوازنات دقيقة ويُبحر بها في بحر عاصف دون أن يُفرط أو يُساوم. وهذه المدرسة في القيادة، التي تجمع بين مرونة الموقف وصلابة الاتجاه، لا تحمي الدولة فحسب، بل تمنح الأردنيين صورة واضحة عن المعنى الحقيقي للسيادة حين تصبح ممارسة لا شعارًا.
وعندما يبدأ الحضور الخارجي بالتسلل إلى نسيجنا الوطني، لا عبر الجيوش أو البيانات، بل من خلال الخطاب والتمويل والتأثير، فإنَّ الحذر يجب أن يتحول إلى يقظة استراتيجية. هناك محاولات مستترة لإعادة تشكيل النخب وتوجيه المزاج العام، بعضها يبدأ بمنصات صغيرة وينتهي بمحاولات لتهميش القرار الوطني في لحظات مصيرية. ولا يُرد على هذه الموجات بمخاطبة المجاملات، بل ببناء أدوات رصد دقيقة وتحليل معمق لما يحدث، وتجديد البنية المؤسسية والشفافية، وتغذية خطاب وطني صلب يُعيد ضبط بوصلة الانتماء ويُحصِّن الوعي العام من التشويش.
في هذا السياق، تتبدل مفاهيم القوة، لم تعد البندقية ولا البيان الحاد كافية. فالقوة اليوم هي أن تمتلك مناعة فكرية ومجتمعية وسياسية وإعلامية تجعل الداخل عصيًّا على الاختراق، والخارج مضطرًا لإعادة حساباته قبل أن يُجرب العبث. هي أن تسبق الهجوم بالفهم، لا أن تبرر بعد الوقوع، وأن تعيد بناء النخب التي تفكر بالأردن أولًا، لا بمصالحها أو انتماءاتها الضيقة، وأن ينهض جيلٌ من الشباب تربَّى على سؤال جوهري لا مهرب منه: أين أنا من دولتي؟ وماذا يعني أن أكون أردنيًّا حين تهتز الأرض من تحتي؟
الدفاع عن الدولة الأردنية ليس رفاهًا فكريًّا ولا تمرينًا بلاغيًّا، بل التزام أخلاقي وتاريخي تجاه وطن أثبت قدرته على الصمود في وجه محاولات التصفية والتذويب لأكثر من قرن. العداء للأردن لا يظهر دومًا في الشعارات الصارخة، بل أحيانًا يتخفى في حياد المثقفين، في مساومات اللحظة، في صمت المتفرجين الذين يرون ولا يتكلمون. ومن أراد أن يكون من هذا الوطن، فعليه أن يختار لحظة الصدق. أن يقف مع الدولة حين تتكاثر عليها الأيدي، وأن يدافع عنها حين تتزاحم حولها الأصوات، لأنَّ من لم يقف الآن، لا يستحق أن يُدعَى إلى لحظة البناء.

مدار الساعة ـ