في تسعينيات القرن الماضي، كانت واشنطن تَثِق بأنَّها تُعيد رسم العالم على صورتها، ومع صعود الصين كقوة اقتصادية مذهلة، لم تختر الولايات المتحدة المواجهة المباشرة، بل سلكت طريق الدمج الناعم.
الرهان الأمريكي كان واضحًا: إذا ما دُمجت الصين في النظام الليبرالي العالمي القائم على الانفتاح والعولمة والأسواق المفتوحة، فإنَّها عاجلًا أم آجلًا ستتحول إلى شبيه أمريكي، بنسخة شرقية؛ لكن التاريخ لا يرحم من لا يقرأه بتمعن.
حين انقلب السحر على الساحر..
الصين لم تذُب في القالب الغربي، بل قاومته بصبر استراتيجي، حتى صنعت من داخل النظام منظومة جديدة، لم تعلن الحرب، ولم ترفع شعارات الثورة، بل بهدوء مدهش، أعادت تعريف القواعد:
أمريكا التي بشَّرت بالأسواق المفتوحة، أصبحت تؤمم التكنولوجيا؛
أوروبا التي نادت بتحرير التجارة، بدأت تحمي الصناعات الوطنية.
العالم الذي صاغته أمريكا، أصبح يتحدث صينيًّا، لا بأحرف الماندرين، بل بلغة "رأسمالية الدولة القومية"، و"السيادة الصناعية"، و"التحكم في سلاسل الإمداد".
اليوم، تُشبه أمريكا الصين أكثر مما تُشبه نفسها قبل عشرين عامًا. نموذج بكين —القائم على تدخل الدولة، إدارة السوق، التخطيط طويل المدى، والسيادة الاقتصادية— أصبح النموذج الذي تُقلِّده العواصم الكبرى، حتى دون أن تعترف.
التحول الصامت: من عولمة السوق إلى عولمة الصين:
العالم يعيش مرحلة انتقال ناعم نحو نظام هجين: ليسَ اشتراكيًّا، ولا رأسماليًّا صرفًا. هو نظام ملوَّن ببصمات بكين:
الحوافز الحكومية بدلًا من الحريات المطلقة، ضبط الاستثمار الأجنبي بدلًا من ترك الحبل على الغارب، أولويات الدولة فوق كل شيء.
هذا ليسَ انتصارًا آنيًّا للصين، بل تحوُّل بنيوي في قلب المنظومة العالمية، والذين لا ينتبهون، سيكتشفون متأخرين أنَّهم يعيشون في عالم لم يُصنع لأجلهم.
وهنا يُطرح السؤال الكبير: أين الأردن من كل هذا؟
نحن لا نعيش على هامش هذهِ التغيرات، بل في قلب زلزالها، والمنطقة كلها، من شرق المتوسط حتى الخليج، تتأرجح بين ضغوط الغرب، وجاذبية الشرق، وتحديات الداخل.
فعلى الأردن أن يقرأ اللحظة بوعي مركَّب، وأن يتحرك على أساس ثلاث دوائر مترابطة:
١- دائرة السيادة الاقتصادية
لم يعد مقبولًا أن يبقى اقتصادنا هشًّا، مرتبطًا بالمساعدات، ومتروكًا لقوى السوق بلا قيادة.
بل نحتاج إلى سياسة صناعية وطنية، تُحدد الأولويات، تدعم الإنتاج، وتبني قطاعات تكنولوجية وزراعية وصناعية تُحقق الاكتفاء وتنطلق نحو التصدير.
٢- دائرة التموضع الجيوسياسي الذكي
الأردن لا يجب أن ينحاز لعالم ضد آخر، بل أن يُوظف موقعه ليكون "منصة توازن".
التحالف مع أمريكا لا يتناقض مع الانفتاح المدروس على الصين، ولا مع بناء شراكات حقيقية مع الهند، وشرق آسيا، والعالم العربي الصاعد.
منطق الاصطفاف انتهى، ومنطق المصالح هو الباقي.
٣- دائرة التمكين الداخلي والانطلاق الذكي
لم تعد التحديات مُجرد أزمات اقتصادية أو سياسية، بل هي اختبار لقدرتنا على إعادة إنتاج الذات الأردنية بشكل عصري وفاعل.
التمكين الداخلي يبدأ من الإنسان، من التعليم الذي يُحرِّر لا يُكرر، من الاقتصاد الذي يفتح الآفاق لا يُقيد، ومن الإدارة التي تخدم لا تتحكم.
وهُنا، لا بُدَّ من التأكيد أنَّ على المسؤولين في الدولة الأردنية أن يأخذوا رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين — حفظه الله ورعاه — للتحديثات الاقتصادية والسياسية والإدارية على محمل الجد، والعمل بها وعليها باعتبارها خريطة انطلاق وتأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ الدولة الأردنية.
رؤية الملك ليست ترفًا سياسيًّا، بل مشروع وطني شامل، صيغ بعناية، ليُعيد هيكلة مؤسساتنا، ويُطلِق طاقات شبابنا، ويؤسس لنموذج أردني متماسك ومنافس.
وقد وجب علينا، قيادةً ومجتمعًا، أن نمضي قدمًا بها؛ لنواكب الدول المتطورة لا بالشكل فقط، بل بالجوهر والبنية والطموح.
ففي الختام أقول: نحن في زمن إعادة التأسيس،
فالعالم لا يُعيد ترتيب أوراقه فقط، بل يُعيد تعريف معانيه.
والأمم الذكية ليست تلك التي تنتظر الأوامر، بل التي تبادر لتكتب قصتها، بصوتها، ولغتها، وتجربتها.
الأردن اليوم أمام لحظة تاريخية، إما أن يكون شريكًا في صناعة المرحلة المقبلة، أو مجرد متفرج على مقاعد الخشية.
وهُنا، لا بُدَّ من القول: لم يعد يكفي أن نحافظ على الاستقرار، بل أن نحوله إلى انطلاقة، وإلا فإنَّ قطار العالم سيمضي ولن ينتظر أحدًا.