في الثالث من أيار من كل عام، يقف العالم احترامًا لمبدأ حرية الصحافة، ذلك الركن الجوهري في بنية المجتمعات الديمقراطية. مناسبة لا تُستحضر فيها فقط انتصارات الكلمة الحرة، بل يُعاد خلالها تفكيك التحديات البنيوية والتشريعية التي تعترض مسار الإعلام المستقل.
لقد أحرز الأردن، بحسب تصنيف "مراسلون بلا حدود" لعام 2024، تقدمًا ملحوظًا بلغ 14 درجة، ليحتل المرتبة 132 من أصل 180 دولة، بعد أن كان في المرتبة 146 في العام السابق. هذا التحسن لا يمكن إنكاره من الناحية الإحصائية، لكنه يفرض تساؤلًا جوهريًا حول انعكاسه الفعلي على أرض الواقع: هل تغيرت بيئة العمل الصحفي فعلاً؟ أم أن التصنيف يعكس تحسناً نسبياً في مؤشرات المقارنة لا أكثر؟
المشهد الإعلامي الأردني يتمتع ببنية تعددية على المستوى الشكلي، حيث تتواجد الصحف الورقية والمنصات الرقمية والفضائيات الوطنية. لكنّ هذه المؤشرات لا تُخفي هشاشة البنية التشريعية التي تحكم العملية الإعلامية، خاصة في ظل استمرار العمل بقانون الجرائم الإلكترونية لسنة 2023، الذي يتضمن مواد فضفاضة تُجيز التقييد الاستباقي للنشر بذريعة "التحريض" أو "نشر الكراهية"، وهي مفاهيم لا تخضع لتعريف قانوني دقيق، ما يُبقي سيف الرقابة مشرعًا فوق أقلام الصحفيين.
إن تعارض هذا القانون مع نص المادة (15) من الدستور الأردني، التي تكفل حرية الصحافة والنشر ضمن حدود القانون، يطرح إشكالية دستورية في التطبيق، ويُفرغ الضمانات الدستورية من محتواها العملي. كما أن غياب قانون ناظم وفعّال لحق الحصول على المعلومات يحوّل الصحافة إلى ممارسة تعتمد على "التخمين والتحليل" بدلًا من "الاستقصاء والحقائق"، ما يُقوّض أحد أهم أركان الصحافة المهنية.
في هذا السياق، تبرز مسؤولية المؤسسات الإعلامية والنقابات المهنية في تبنّي خطاب حقوقي لا يكتفي بموقع التكيّف، بل يسعى لتفكيك بنية التقييد وكشف التناقض بين الشعارات السياسية والتشريعات الممارسة. فالصحافة، في جوهرها، ليست مجرد مهنة نقل الأخبار، بل سلطة رقابية تسائل السياسات العامة، وتضع الخطط الحكومية تحت مجهر النقد والتحليل، لصون الحق العام في المعرفة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية والمعرفية.
من هنا، فإن استمرار العمل بقوانين تُقيّد الفضاء الرقمي وتُجيز الملاحقة القانونية للنشر، يشكل عبئًا لا على الصحفيين فحسب، بل على صورة الدولة ذاتها في المحافل الدولية بل ويتناقض مع مسار التحديث السياسي الذي يقوده جلالة الملك عبد الله الثاني، والذي يهدف إلى توسيع آفاق الديمقراطية وتعزيز المشاركة الشعبية، ما يجعل إعادة النظر في هذه التشريعات ضرورة إصلاحية تتجاوز البعد الإعلامي إلى أفق الدولة المدنية.
في المقابل، لا يزال الأردن يحتفظ بهامش من الحرية الإعلامية، رغم التحديات السياسية والأمنية التي تلاحق المنطقة. إذ يتمتع الصحفيون في المملكة بمساحة نسبية من الاستقلالية التي تتيح لهم معالجة القضايا الاجتماعية والثقافية بحرية. ورغم بعض القيود، تبقى هذه المساحة ضرورية لتعزيز بيئة إعلامية تشاركية، وهي خطوة يمكن البناء عليها لتحقيق تطور مستدام. وعلينا أن نأمل بأن يكون هذا التحسن أساسًا لفتح مزيد من الأفق الإعلامي في المستقبل، بما يتوافق مع التوجهات الإصلاحية التي يقودها جلالة الملك.
وإذ نحتفي عالميًا بحرية الصحافة، فإن من الواجب الأخلاقي والمهني أن نرفع الصوت عاليًا تجاه ما يتعرض له الصحفيون في قطاع غزة من استهداف ممنهج، وقصف مباشر، وحصار معلوماتي. لقد تجاوزت الانتهاكات هناك حدود القانون الدولي الإنساني، وأضحت جرائم موثقة بحق ناقلي الحقيقة. وعلى المنظمات الحقوقية الدولية، ومؤسسات حماية الصحفيين، ومجلس حقوق الإنسان، أن تتحمل مسؤولياتها في وقف هذا النزيف، ومحاسبة المسؤولين، وضمان بيئة آمنة للإعلاميين الفلسطينيين الذين يدفعون أرواحهم ثمناً للحقيقة.