في خضم تصاعد التوتر الإقليمي وتزايد الأصوات الغاضبة إزاء ما يحدث في غزة ولبنان، تبرز من وقت لآخر أخبار عن محاولات “رد رمزي” أو “تحرك مفاجئ” من داخل الجبهة الأردنية، كالحديث مؤخراً عن مجموعة صغيرة تم ضبطها وبحوزتها صواريخ قيل إنها كانت موجهة نحو إسرائيل.
بعيدًا عن التحقيقات والتفاصيل الأمنية، ثمة حاجة ماسة لنقاش عقلاني يعيد ترتيب الأولويات، ويطرح الأسئلة التي جرى إسكاتها وسط ضجيج العواطف الجارفة. فلو سلّمنا – مجازًا – بصحة الرواية القائلة إن هناك من حاول فعلاً إطلاق صواريخ من داخل الأراضي الأردنية، علينا أن نتخيل المشهد التالي: إسرائيل، وهي تشعر بفائض قوة غير مسبوق، وتتمتع بدعم أمريكي مطلق، سترد على الفور وبقسوة.
هل نحن مستعدون حقاً لمشهد القصف في عمّان؟
هل لدينا القدرة على احتمال صور المستشفيات الممتلئة، والنزوح الداخلي، وارتباك الخدمات، وتعليق الحياة الاقتصادية؟
هل فكّرنا في شكل الحرب حين تكون المدن، لا الجبهات، هي مسرح النيران؟
نحن هنا لا نتحدث عن الحياة والموت ، بل عن تفكك المجتمعات.
إنها ليست سيناريوهات للتخويف، بل دروس مستخلصة من تجارب شعوب شبيهة حاولت خوض المواجهات الكبرى من دون قرار دولة، ومن دون استعداد داخلي، ومن دون قراءة دقيقة لموازين القوى. لبنان خير شاهد: كلما خاض حربًا بلا قرار مركزي، كانت الكلفة باهظة على الشعب والدولة معًا. أما غزة، فهي تعيش اليوم نقاشًا داخليًا مريرًا حول “من يقرر” الحرب، ومن يدفع ثمنها، وما هو تعريف النصر في بيئة يُدمر فيها كل شيء، وتُقاس البطولة بعدد الشهداء فقط.
ما هو المسكوت عنه في حالتنا الأردنية؟ ولماذا لا يتوجه النقاش العام لهذا السؤال : من يملك قرار الحرب والسلم؟
في الدول الديمقراطية، تُعرض الحروب على البرلمانات المنتخبة، ويُناقش فيها القادة مع النواب والشعوب. حتى غزو العراق عام 2003، جرى تمريره عبر الكونغرس الأمريكي والبرلمان البريطاني، رغم هشاشة مبرراته.
أما أن تتخذ مجموعة صغيرة – حتى لو كانت مدفوعة بالغضب والألم – قرار إشعال حرب إقليمية من داخل دولة كاملة، فذلك قفز على العقد الاجتماعي والسياسي الذي تستند إليه الدول الحديثة. إنه تجاوز لحق الشعب في تقرير مصيره عبر المؤسسات، وتحويل للمشهد إلى معادلة عبثية: أفراد يقررون مصير ملايين.
نحن، في الأردن، لسنا على هامش الصراع. نحن من أكثر الشعوب المتأثرة وجدانياً وإنسانياً بما يحدث في فلسطين. لكننا أيضاً نمتلك دولة ومؤسسات ومجتمعاً يراهن على الاستقرار والعقلانية في وقت يغرق فيه الإقليم بالمجهول.
الأسئلة الصعبة يجب أن تُطرح الآن، لا بعد أن يقع المحظور.
هل يمكن لمجموعات أن تسحب دولة كاملة إلى مواجهة شاملة؟
هل العاطفة كافية لتبرير القفز إلى الهاوية؟
وهل نملك، كأردنيين، رفاهية الدخول في حرب لا تشبه أي حرب خضناها من قبل؟
ليست الدعوة هنا إلى الصمت أو الحياد، بل إلى التفكير بصوت عالٍ، وفتح ملفات تم تغييبها تحت ضغط اللحظة. فالدول تُبنى على القرار المؤسسي، لا على ردود الأفعال.
قد يأتي يوم تُفرض فيه الحرب على الأردن، لكن ذلك اليوم – إن جاء – يجب أن يكون بقرار وطني جامع، يوازن بين الأخلاق والمصلحة، بين التضامن والحسابات الاستراتيجية، لا عبر مبادرات فردية قد تُفسر على أنها بطولات، بينما هي في حقيقتها بوابات كارثة وطنية شاملة.