أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات جامعات مغاربيات خليجيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

الطراونة يكتب: النخب المستهلكة.. من قاطرة التغيير إلى بوابة الفساد!


ا.د مخلد سليمان الطراونه

الطراونة يكتب: النخب المستهلكة.. من قاطرة التغيير إلى بوابة الفساد!

مدار الساعة ـ

في تاريخ كل دولة مرّت بمرحلة تحوّل أو أزمة، كانت النخب الواعية هي التي تتقدم الصفوف، تؤطّر الوعي، وتصوغ الرؤية، وتفتح أفقًا جديدًا للناس. النخبة ليست مجرد طبقة مثقفة أو نافذة، بل هي، كما وصفها مالك بن نبي، "القاطرة التي تجرّ المجتمع نحو التقدّم". لكنها قد تتحول، بفعل عوامل ذاتية وسياقية، إلى عبء يثقل كاهل الدولة والمجتمع، لا طاقة تدفعه. فعندما تفقد النخبة مشروعها، وتتحول من حاضنة للأفكار إلى مستهلكة للامتيازات، تبدأ أولى علامات الانحدار. تنشغل بمكاسبها وتعيد اجترار خطاب لم يعد صالحًا للواقع، وتعيش على ماضٍ رمزي بدل أن تصنع مستقبلًا جديدًا. وهنا تنقلب النخبة من أداة للإصلاح إلى جزء من المشكلة، بل أحيانًا إلى غطاء ناعم للفساد المتفاقم.

وقد عبّر المفكر المصري جلال أمين عن هذه الحالة بدقة حين قال: "أخطر أنواع الفساد هو أن تصبح النخبة جزءًا من نظام المصلحة لا من منظومة الإصلاح." في هذه اللحظة، تفقد النخبة قدرتها على المواجهة، لا لأنها لا تعرف الحقيقة، بل لأنها أصبحت مستفيدة من استمرار الوضع كما هو، أو عاجزة عن تغييره. غياب النخبة الفاعلة لا يُنتج فراغًا ثقافيًا فحسب، بل فراغًا في رقابة السلطة، في مساءلة القرار، في تحفيز المبادرات. وهذا الفراغ سرعان ما تملؤه شبكات الولاء الضيقة، حيث يصبح القرب من المركز أهم من الكفاءة، وتُستبدل النزاهة بالولاء، ويُهمَّش أصحاب الخبرة لصالح "أهل الثقة".
وليس أدلّ على هذا من قول نعوم تشومسكي: "حين يغيب القانون، يظهر الولاء بديلاً عن الكفاءة." وكلما زادت هيمنة هذه البُنى المريضة، كلما أصبح الفساد أكثر تنظيمًا، لا باعتباره خللًا فرديًا، بل نظامًا مستقرًا. وحينها، تفقد الدولة قدرتها على ضبط إيقاع مؤسساتها. فالقوانين تُشرّع دون إرادة لتطبيقها، والرقابة تتحول إلى شكليات، فيما تصبح المساءلة فعلًا نادرًا، يُستخدم انتقائيًا لا كمبدأ دائم. وتبدأ شرعية الدولة بالتآكل التدريجي، خاصة عندما يرى المواطن أن النخبة – التي من المفترض أن تكون ضميره الحي – قد صمتت، أو تواطأت. وقد لخّص محمد عابد الجابري هذه المأساة بقوله: "إن النخب إذا لم تواجه الفساد، فإنها تبرره وتؤسسه وتعيش عليه."
ومع ترسخ هذا الواقع، تنشأ نخب مشوهة: تُجيد إدارة الخطاب لا إدارة الدولة، وتبرع في الحفاظ على صورتها لا على كفاءتها. إنها نخب عاجزة عن التجدد، متخوفة من التغيير، لا تملك ما تقدمه سوى تكرارٍ باهت لأدوار تجاوزها الزمن. وهنا يصبح السؤال مصيريًا: هل نحن أمام مصير محتوم؟ أم أن استعادة النخبة لدورها لا يزال ممكنًا؟
الطريق يبدأ بإدراك حقيقة بسيطة لكنها جوهرية: لا نهضة بلا تجديد للنخبة. فكما قال عبد الوهاب المسيري: "المجتمع الذي لا يجدد نخبته، كالجسم الذي لا يجدد دمه." ولا يمكن لهذا التجديد أن يتم إلا بفتح الأبواب أمام طاقات جديدة: شبابية، جريئة، متصالحة مع ذاتها، قادرة على التفكير خارج الصندوق، ومؤمنة بأن العمل العام مسؤولية لا امتياز. لكن ذلك يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية لخلق بيئة حاضنة للكفاءة، وإعلام حر يتيح النقد والمساءلة، ونظام تعليمي يُخرّج مفكرين لا مقلّدين. نحن بحاجة إلى مؤسسات تفضّل أصحاب الحلول على أصحاب الشعارات، وتكافئ من ينجز لا من يصفق.
ففي النهاية، وكما قال مالك بن نبي: "إذا أردت أن تنهض بأمة، فابدأ بنخبتها." ولعلّ هذا ما يجعل إصلاح النخبة الخطوة الأولى نحو إصلاح الدولة. فبغير نخبة واعية، حرة، متجددة، ستبقى الدولة عرضة للفساد، ومؤسساتها مرتهنة للجمود، ومستقبلها رهينة للماضي.

مدار الساعة ـ